الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (8): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}{وَمِنَ الناس} شروع في بيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة في ألوقة، وعُوّض عنها حرفُ التعريف، ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما، وأما في قوله:فشاذ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم. وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قلبت ألفاً، سُمّوا بذلك لنسيانهم، ويُروى عن ابن عباس أنه قال: سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي، واللام فيه إما للعهد، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول، كأنه قيل: ومنهم أو من أولئك، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم، كما ينبىء عنه التبعيضُ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه، أو نعتٌ لمبتدإٍ، كما في قوله عز وجل: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي وجمعٌ منا الخ، ومن في قوله تعالى: {مَن يِقُولُ} موصولة أو موصوفة، ومحلُها الرفعُ على الخبرية، والمعنى وبعضُ الناس، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} الآية، أو فريق يقول، كقوله تعالى: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} الخ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة، وما يتعلق به من الصفات جميعاً، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين.وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه، وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين، أو عن الجنس المقصور على المصرّين، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه، غيرَ مقصودٍ بالذات، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها، وتوحيدُ الضمير في {يقول} باعتبار لفظةِ {مَن}، وجمعُه في قوله: {آمنا بالله وباليوم الأخر} وما بعده باعتبار معناها، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ، إذ لا حدَّ وراءه، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه، وأحاطوا به من طرفيه، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم: {عَزِيزٌ ابن الله} وجاحدين باليوم الآخر بقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ونحو ذلك، وحكايةُ عبارتهم لبيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه. وما حجازية، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية. ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع، لا على امتناع الاستمرار، كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا، وقد جُوز أن يكون المراد ذلك، ويكون الإطلاق للظهور، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان، واعتقادُه بخلافه، لا يكون مؤمناً، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ. .تفسير الآية رقم (9): {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}{يخادعون الله والذين ءامَنُوا} بيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون، أو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين، فقيل: يخادعون الله الخ، أي يخدعون، وقد قرئ كذلك، وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع، والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعَه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجُوَ منه بسهولة، من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمرّ الحارسُ يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر، وكلا المعنيين مناسبٌ للمقام، فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائرَ الكفرة.وأياً ما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل، لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين، وإما على طريقة المجاز العقلي، بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر، وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا، والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسد، وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم، أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة، أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم، وهم عنده أخبثُ الكفرة، وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم، وامتثالُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل، مما لا يرتضيه الذوق السليم.أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع، وأما الثاني فلأن مقتضى المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليق بها من الصورة المستهجَنة، وبيانُ أن غائلَها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون، كما يُعرب عنه قوله عز وعلا: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه، وهو حالٌ من ضمير {يخادعون}، أي يفعلون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم، فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم، أو ما يخدعون حقيقةً إلا أنفسَهم، حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردى، وقرئ {وما يخادعون} والمعنى هو المعنى، ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال: وما يعامِلون تلك المعاملةَ الشبيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم، أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسَهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل، وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ، وقرئ {وما يُخَدِّعون} من التخديع {وما يخدعون} أي يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول، ونصبُ {أنفسَهم} بنزع الخافض، والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به، وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح.أو مُتعلَّقُه، وللدم أيضاً لأن قِوامَها به، وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم.وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير ما يخدعون، أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية، وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه، أي ما يشعرون بشيء أصلاً، جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفى إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر..تفسير الآية رقم (10): {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخللَ في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت، استُعير هاهنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة، وعداوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني، والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعاً مُبهماً غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض، والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى: {مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ} من استمرار عدمِ إيمانهم، أو تعليلٌ له كأنه قيل: ما لهم لا يؤمنون فقيل: في قلوبهم مرضٌ يمنعهم {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} بأن طُبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار، والجملةُ معطوفة على ما قبلها، والفاءُ للدلالة على ترتّب مضمونِها عليه، وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بيانِ السبب، وقيل: زادهم كفراً بزيادة التكاليف الشرعية، لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفراً، ويجوز أن يكون المرض مستعاراً لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين، فزيادتُه تعالى إياهم مرضاً ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة، وتأييدِه بفنون النصر والتمكين، فقوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إلخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى: {يخادعون الله} الخ، كأنه قيل: ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل: في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف، هذه حالُهم في الدنيا، {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم يقال: ألمٌ وهو أليم، كوجعٍ وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغة كما في قوله:على طريقة جَدَّ جِدُّه فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب، كما أن الجِدّ للجادّ، وقيل: هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المُسمع وليس ذلك بثبْتٍ كما سيجيء في قوله تعالى: {بَدِيعُ السموات والارض} {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} الباء للسببية أو ما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون، وكلمة كانوا مُقحَمةٌ للمقابلة لإفادة دوامِ كذِبهم وتجدُّدِه أي بسبب كذبهم، أو بمقابلة كذبهم المتجددِ المستمرِّ الذي هو قولهم: {بالله وباليوم الأخر وَمَا} وهم غير مؤمنين، فإنه إخبارٌ بإحداثهم الإيمانَ فيما مضى لا إنشاءٌ للإيمان. ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبولِ قطعاً، ويجوز أن يكون محمولاً على الظاهر بناءً على رأي من يجوِّز أن يكون لكان الناقصةِ مصدر، كما صُرِّح به في قول الشاعر: أي لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذِبون على الاستمرار، وترتيبُ العذاب عليه من بين سائر موجباته القويةِ.إما لأن المرادَ بيانُ العذاب الخاصّ بالمنافقين بناءً على ظهور شِركتِهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسبَ اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَمِنَ الناس} الخ.وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائرِ جناياتِهم العظيمةِ من العذاب ما لا يوصف.وإما للرمز إلى كمال سماجةِ الكذب نظراً إلى ظاهر العبارةِ المخيّلةِ لانفراده بالسببية، مع إحاطة علمِ السامعِ بأن لحوقَ العذاب بهم من جهات شتى، وأن الاقتصارَ عليه للإشعار بنهاية قُبحه والتنفير عنه.عن الصديق رضي الله عنه ويروى مرفوعاً أيضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والكذبَ فإنه مجانبٌ للإيمان» وما روي أن إبراهيمَ عليه السلام كذَبَ ثلاثَ كَذَباتٍ فالمرادُ به التعريضُ، وإنما سمِّي به لشَبَهه به صورةً، وقيل: {ما} موصولة والعائدُ محذوف أي بالذي يكذبون والمفعول محذوف، وهو إما النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآنِ و{ما} مصدرية، أي بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام، أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف، ويجوز أن يكون صيغةُ التفعيل للمبالغة كما في بيَّن في بان وقلَّص في قلَص، أو للتكثير كما في موَّتت البهائمُ وبرَّكت الإبل، وأن يكون من قولهم: كذب الوحش إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظرَ ما وراءه فإن المنافق متوقِّفٌ في أمره متردِّد في رأيه ولذلك قيل له: مُذَبْذب. .تفسير الآيات (11- 12): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الارض} شروع في تعديد بعضٍ من قبائحهم المتفرعةِ على ما حُكي عنهم من الكفر والنفاق، وإذا ظرفُ زمنٍ مستقبلٍ، ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعُه، واللامُ متعلّقة بقيل ومعناها الإنهاءُ والتبليغ، والقائمُ مقامَ فاعلِه جملة {لا تفسدوا} على أن المراد بها اللفظ، وقيل هو مُضمرٌ يفسِّرُه المذكورُ، والفسادُ خروجُ الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاحُ مقابلُه، والفساد في الأرض هَيْجُ الحروب والفتنِ المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلالِ أمر المعاش والمعاد، والمراد بما نهُوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائِهم عليهم، وغيرِ ذلك من فنون الشرور، كما يقال للرجل لا تقتُلْ نفسَك بيدك، ولا تلقِ نفسك في النار إذا أقدم على ما تلك عاقبته وهو إما معطوف على {يقول}، فإن جُعلت كلمة {مَنْ} موصولةً فلا محل له من الإعراب، ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئنافِ وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلةِ فإن ذلك ليس توسيطاً بالأجنبيّ، وإن جُعلت موصوفةً فمحلُه الرفع، والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الأرض {قَالُواْ} إرادةٌ للناهين أن ذلك غيرُ صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصليَّ إنكارُ كونِ ذلك إفساداً وادعاءُ كونِه إصلاحاً محضاً كما سيأتي توضيحه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي مقصورون على الإصلاح المحض، بحيث لا يتعلق به شائبةُ الإفساد والفساد، مشيرين بكلمة {إنما} إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يُرتاب فيه.وإما كلامٌ مستأنَفٌ سيق لتعديد شنائعِهم. وأما عطفهُ على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل، فيأباه أن هذا النحْوَ من التعليل حقُه أن يكون بأوصافٍ ظاهرةِ العِلّية مُسلَّمةِ الثبوت للموصوف غنيةٍ عن البيان لشهرة الاتصافِ بها عند السامع أو لسبق ذكرِه صريحاً كما في قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فإن مضمونه عبارةٌ عما حُكي عنهم من قولهم: {بالله وباليوم الأخر وَمَا} أو لذكر ما يستلزمه استلزاماً ظاهراً كما في قوله عز وجل: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل الله مما يوجب حتماً نسيان جانب الآخرة التي من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصداً كما في قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} الآية، وقوله: {ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} الآية، إلى غير ذلك، ولا ريب في أن هذه الشرطيةَ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمونُ شيء منها معلومَ الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة، حتى تستحقَ الانتظامَ في سلك التعليل المذكور، فإذن حقُها أن تكونَ مَسوقةً على سنن تعديدِ قبائحِهم على أحد الوجهين، مفيدةً لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصداً واستقلالاً كيف لا وقوله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} ينادي بذلك نداءً جلياً، فإنه ردٌ من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغَ رد، وأدلَّه على سَخَط عظيم حيث سُلك فيه مسلك الاستئنافِ المؤدي إلى زيادة تمكّنِ الحكم في ذهن السامع، وصدرت الجملة بحرفي التأكيد {ألا} المنبّهة على تحقق ما بعدها، فإن الهمزة الإنكارية الداخلةَ على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعاً كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرةً بما يتلقى به القسمُ، وأختها التي هي {أمَا} من طلائع القسم.وقيل: هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح وإن المقرِّرة للنسبة، وعُرفُ الخبر ووسَطُ ضمير الفصل لردِّ ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين. ثم استُدرك بقوله تعالى: {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسَّ لهم حتى يُدركوه، وهكذا الكلامُ في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من ردِّ مضمونهما، ولولا أن المراد تفصيلُ جناياتهم وتعديدُ خبائثهم وهَناتِهم ثم إظهارُ فسادِها وإبانة بُطلانها لما فُتح هذا البابُ والله أعلم بالصواب.
|